قصة مدينتين.. ومدن أخرى
توجان فيصل
تكرر قيام الإعلام الرسمي وشبه الرسمي للأنظمة الملكية وكتبتها, بشجب واستنكار بقاء رؤساء الجمهوريات في مناصبهم مدى الحياة, ومحاولات توريثهم الحكم.
ويستعمل هؤلاء -لإدانة الحالتين- تعبير "الجمهوريات الملكية" أو "الجمهوملكيات", دون أن يعوا أن قولهم هذا يمثل إدانة للملكية كنظام وكفكرة. فجزئية الملكية, وليس جزئية الجمهورية, هي ما يشكل النقيصة في هذا التعبير الإداني المستحدث.
ومؤخرا, تعززت تلك الإدانة من مصدر محايد هو التقرير الختامي للجنة تقصي حقائق ثورة 25 يناير, والتي لخصت الأسباب المؤدية لثورة المصريين, ولكل الثورات العربية الجارية: دستور يعطي صلاحيات مطلقة للحاكم فيخلق دكتاتورا محصنا من أي عقاب أو مسؤولية, تزوير فاضح لانتخابات مجلس الشعب, حكومات رجال أعمال جمعت بين المال والسلطة, الفساد المالي والإداري وإقصاء الكفاءات, وإعلام حكومي فاقد للمصداقية.
"الذي فجر صاعق الثورات العربية هو فرض مشروع توريث "الجمهوريات" رغم المعارضة الشعبية لأي توريث"ولكن الأهم الذي فجر صاعق تلك الثورات هو فرض مشروع توريث "الجمهوريات" رغم المعارضة الشعبية لأي توريث.
الموضوعية تفرض علينا أن نقر بأنه -على الأقل- محاولات توريث الجمهوريات يسبقها انتقاء أدق للوريث وإعداده بما يمهد ويسهل الترويج "لولي العهد الجمهوري". وتتلوه محاولة تسويق ما يجري باعتباره انتخابا, مما يتيح فرص الطعن بعدم شرعية مجريات تلك الانتخابات أو أطرها القانونية.
بينما في الملكيات هي تأتي بالوراثة للأكبر سنا من أبناء الملك وليس بالتأهيل من أي نوع. وقد تنقل وراثة العرش من الوريث الأصل لغيره من السلالة الحاكمة حسب رغبات الملك التي قد تكون أتت وهو على فراش الموت مما يجعل صلاحيتها موضع تساؤل, أو حسب أية ضغوط تملكها أية جهة من الزوجات أو الحاشية أو حتى جهات خارجية. أيها يملك تأثيرا أكبر على الملك وهو في تلك الحالة.
وهذا بمجمله يجعل توريث الجمهوريات أقل ضررا, بحكم مساره, من توريث الملكيات. فكيف يتسنى أن ينابذ مؤيدو الثانية محاولي الأولى بألقاب تتركز تحديدا في تهمتي "التوريث" و"الملكية", إلا أن يكون هؤلاء ينطلقون من إيمان يصل حد العقيدة بحق الملوك الإلهي في الحكم.
والحقيقة أن هذا هو السند الوحيد للملكيات, تاريخيا. وهو ما كان مقبولا في بدايات تشكل المجاميع البشرية حين كان يجري زعم أن الملك إله, أو من سلالة آلهة سواء كانت خالصة أو هجينة بامتزاجها بالبشر. والثانية بدأت بعد أن استحال تثبيت صفات الألوهة -مهما اختلفت بين ديانة وأخرى- على ملك هو بشر ويمرض ويعجز بل ويموت بين يدي أطبائه الذين يتحكمون بحياته أو موته طبيا وأحيانا سياسيا. وحتما يتكشف لآخرين من خارج الحاشية بعده عن الألوهة, ومرارا افتقاده لمزايا يتمتع بها بشر في ذات محيطه ولا يملكها هو بذات القدر.
ولهذا كله -ومع ازدياد وعي الإنسان- جرى زعم أن الملوك يحكمون نيابة عن الله وبأمر إلهي, وهو ما روجه الكهنوت المستفيد من سلطات الملك عبر التاريخ كله, وصولا للكنيسة, ومن بعدها فئة مفتي السلاطين في المجتمعات الإسلامية التي تروج لذات الحق الإلهي في الحكم بتحريف صريح مسيء للإسلام لمعنى "أولي الأمر".
هذه الفئة تبدأ عملها بفصل "ولي الأمر" عن طريقة وآلية ولاية ذلك الأمر "الدنيوي" في الإسلام, والذي لم يقبل النبي ذاته توليه إلا بالبيعة (أي الانتخاب) فردا فردا, ذكوراً وإناثا من كامل وفد مرسل أساسا من أهل يثرب لمبايعته تحديدا. وتولى ذلك الأمر بناء على اتفاق سياسي يعرف شروطه وحيثياته "الدنيوية السياسية" كل دارس أمين لحادثة البيعة وما أحاط بها تاريخيا.
هذا عن موقف النبي, أي السنة. فيما رفض الإسلام لتوريث الحكم جرى تثبيته ربانيا, لمن يؤمن بالحكمة السماوية, أولا, بحرمان الرسول من بقاء أي من أبنائه الذكور على قيد الحياة في مجتمع ذكوري. وثانيا, في نص قرآني يحدد كيفية "تولي الأمر", ليس فقط بمجمله بل أيضا بكيفية البت في تفاصيل ذلك "الأمر" (الدنيوي أي السياسي) بقوله تعالى: "وأمرهم شورى بينهم". والجزء "الديمقراطي" الذي يلزم بالشورى فرض على الرسول ذاته بنص الآية "وشاورهم في الأمر". أما تتمة الآية "وإذا عزمت فتوكل" فهي خطاب يأخذ بالحسبان طبيعة التوكل المبرر "للعزم" المتاحة لنبي يوحى له من ربه بما كان يغير من عزمه الأول مرارا, وهو ما لا يتاح لأي كان من بعده, كونه خاتم الأنبياء والمرسلين.
وبالتالي يلزم كل حاكم بعده برأي الأغلبية الذي ينص عليه الحكم الشامل "وأمرهم شورى بينهم". وثالثا, أن النبي, وهو على فراش الموت وحين أعلن أن الله أكمل للمسلمين دينهم, رفض التوريث أو حتى تزكية أي من الصحابة لخلافته, بما قد يؤثر على حرية قرار المسلمين. هذا لمن بقي خارج التاريخ يحاول ترويج أسطورة "الحق الإلهي في الحكم" لاستغفال شعوب جاهلة عبر التخويف الديني الذي مارسته قبلنا الكنيسة المسيحية وأدى "لعصور الظلمة" في أوروبا. وهي ممارسة أسماها ذات أتباع الكنيسة في عصور التنوير "بالتحالف غير المقدس بين الملوك والكنيسة".
"كل ما تبقى من ملكيات في العصر الحديث, باستثناء عالمنا العربي, "ملكيات دستورية", والعالم المتحضر لا يحتاج أساسا للاحتكام للدستور في هذا الشأن كونه حسم نصا وممارسة منذ قرون"أقلّه إذا, للقبول بالتوريث باسم الملكية, أن يكون الدستور صريحا بما لا يقبل أي لبس لعدم جواز اتخاذ الملك لأي قرار يستتبع محاسبة لو مارسه غيره. ولهذا فإن كل ما تبقى من ملكيات في العصر الحديث, باستثناء عالمنا العربي, "ملكيات دستورية". والعالم المتحضر لا يحتاج أساسا للاحتكام للدستور في هذا الشأن كونه حسم نصا وممارسة منذ قرون.
أما لماذا تحتفظ تلك الدول المتقدمة بالملكية, فالسبب الأوضح أنها جزء من تقليد عريق جدا (على عكس الملكيات في العالم العربي) لا يضر لأن الملوك لا يحكمون, والناس تميل لعدم تغيير تقليد قديم ما لم يثبت ضرره.
أما السبب الأهم لإبقاء تلك الملكيات, وهو المنفعة السياسية, فيتعلق بأمر سيئ جدا في معيارنا وتجاربنا كشعوب عالم ثالث, ومفاده إبقاء بعض من نفوذ الدول المستعمرة (بكسر الميم) في البلاد التي استقلت عنها.
وأوضح نموذج هنا هو الكومنولث البريطاني الذي تشكل من ثلاث وخمسين دولة, بعضها من أقوى وأغني دول العالم, وكلها -باستثناء موزمبيق ورواندا- كانت تشكل الإمبراطورية البريطانية. شبكة توفر لبريطانيا منافع ونفوذا استثنائيا لا يتناسب مع حجمها السياسي والاقتصادي والعسكري الحالي, وذلك تحديدا عبر حكر رئاسة الكومنولث على العرش البريطاني, وكون مركزه الدائم في بريطانيا.
وهذه الرئاسة الملكية لدول تشكل شعوبها ربع سكان العالم هامة لكون الكومنولث تمزج بين الحكومي والشعبي, مما يجعل ملكة بريطانيا رمزا لمليار وسبعة أعشار المليار من سكان العالم, في شؤون تبدأ بالسياسة وتنتهي بالألعاب الرياضية, وبخاصة رياضة الهواة التي جرى تعمد ألا تكون تنافسية فتفرّق, بل إبداعية لتجمّع.
ويضاف لهذا النفوذ الذي يتيحه إبقاء "التاج البريطاني", منفعة مالية تتأتى من السياحة, والتي من أهم معالمها آثار ورموز الملكية في بريطانيا. والاهتمام بهذه يمتد ما وراء دول الكومنولث والعالم الثالث المبهور بالتراث الأوروبي, لدول لم تعرف بل ولم تعترف بالملكية ابتداء كالولايات المتحدة, ولكن أهلها يلجؤون لترفيه يتجاوز ما يتيحه واقعهم لنوع من أحلام اليقظة يستدعي قصص الملوك والأميرات التي لا تفقد سوقها لمنافسة قصص الجن والكائنات الفضائية, كون قصص الملوك حقيقية وشكلت تاريخ البشرية القديم.
"التعذر باستمرار دور "حاكم" لملك يأتي بالوراثة, بعجز الشعب عن حكم نفسه بنفسه, فهو إهانة صريحة للشعوب"وهنا فإن توفر نماذج "حقيقية" لملوك وأمراء وأميرات (بدل صغار المسستخدمين الذين يلبسون أزياء شخصيات تاريخية في المواقع الأثرية) يوفر عنصر جذب سياحي, وأيضا مادة إعلامية بكل ما سيتتبع الإعلام من مكنة إعلان وغيره. وكل هذا مقابل إقامة هؤلاء في جزء من القصور التي تحولت لأمكنة زيارة سياحية.
وهذا تحديدا ما جعل الحكومة البريطانية تخلص لفوائد إبقاء الملكية, وهو ذاته ما جعل توني بلير يقرر إلغاء مراسم دفن موتاهم كونها لا تغطي كلفتها, ولكن عدم تمكنه من إلغاء مراسم الزواج ثبتت فائدته. فبعد قصة الملك الذي تخلى عن العرش ليتزوج من مطلقة أميركية, جاءت قصة زواج وحياة وفضائح وممات الأميرة ديانا لتشكل أكبر استثمار في ملكية لا تحكم بتاتا, وتجدد رواجها مؤخرا بزواج الأمير وليم من فتاة من عامة الشعب. وهو ما يوسع جمهور عامة الشعب المستهلك للبضاعة الملكية.
هذا عن تسلسل المبرر التاريخي للملكيات. أما التعذر باستمرار دور "حاكم" لملك يأتي بالوراثة, بعجز الشعب عن حكم نفسه بنفسه, فهو إهانة صريحة للشعوب. والتعذر بأن الملكية, أو أي نظام حكم مؤبد يدخل على التوريث بغض النظر عن أية تسمية يختار لنفسه, هو عامل بقاء الوطن الأوحد وضامن الوحدة بين فئات الشعب, فتشتم منه رائحة قسمة وفتنة متعمدة. والتجرؤ على زعمه يحمل ذات المضمون المهين لزعم عجز الشعب وتخلفه. أما التورط في افتعاله بالاستقواء الفعلي بجزء من الشعب على آخر, فيدخل في ما يتجاوز دس الفرقة والفتنة للشروع بإشعال حرب أهلية. وهو تحديدا ما يجري في ليبيا الآن, وما بدأ يمتد لسوريا, وما نحذر من امتداده للأردن بعد حشد البلطجية والإعلام الرسمي وشبه الرسمي للتخندق في ثنائية لا أساس لها سوى مخاوف شعب بات كله مفتقدا للأمان السياسي والاقتصادي لدرجة تجعل بعضه يتخبط, والتي هي حالة تحسب على الحكم وليس له. تقابلها قلة من المتنفذين الفاسدين تلعب على تلك المخاوف وتجيش الجهلاء بتوظيف المال المنهوب والنفوذ غير المشروع. والأدهى أنها تعمل جاهدة على إبقاء وتكريس كل الخلل السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي يؤدي لحالة عدم الاستقرار والخوف التي جلبتها هي.
"من قصر قرطاج إلى منفى جدة. وقبل أسابيع "من قصر القبة إلى سجن طرة". ويبقى الاتعاظ بقصر باكنغهام الصامد في لندن "
وخارج قلة تتخبط وقلة تمعن في استغلال الخلل الذي أوجدته, تقف غالبية الشعوب العربية. وكلها بدأت ثورتها بقصد "إصلاح النظام", ولكن حين يثبت أن النظام غير قابل للإصلاح الديمقراطي, تتحول تباعا "لإسقاط النظام". و"قصة المدينتين" لم تعد تقتصر على لندن وباريس.
فالشعوب التي كانت تكتب نسخة جديدة عن المدينة الثانية كل بضعة عقود, باتت الآن تكتب واحدة كل بضعة أسابيع. فـ"من فرساي إلى سجن الباستيل" قبل أكثر من قرنين, كتبت قبل عقود "من قصر عابدين إلى المنفى الإيطالي". ثم قبل شهرين, "من قصر قرطاج إلى منفى جدة". وقبل أسابيع "من قصر القبة إلى سجن طرة". ويبقى الاتعاظ بقصر باكنغهام الصامد في لندن بدراسة عوامل صموده عبر تاريخِ تغير مسارُهُ كليّا وإلى غير رجعة.
Blogger comment:
The fitna or the civil war is the creation of the tyrants and their corrupt regimes. People came out in the streets in masses to ask for their freedom and they met with guns and sticks. In most religions and even in secular regimes you have the right to ask for your freedom and if you are attacked for your legitimate cause you have the right to fight back. No doubt all of us as revolutionaries wanted white revolutions with no blood did the tyrants give us this right. As we expected after they fall we find out how was their greed for power and oppressions has no limits and they were very ready to kill us if we are few and coward but we are countless and brave. There is no doubt we are in the middle of a prophecy like prophet Muhammad described to us there is no third way either to stand with Al Mahdi or to stand with the tyrants. It is after all your eternity.
Wednesday, May 18, 2011
Subscribe to:
Post Comments (Atom)
No comments:
Post a Comment