مجدي أحمد حسين يكتب : لا يمكن إقامة شرع الله تحت السقف الأمريكى وبوزراء المخلوع وبخطة ابنه
<<ألا تكفيكم 30 سنة لتعرفوا أن أمريكا لن تساعدنا فى التنمية والتطور
<<التطبيع مع الصهاينة وحصار غزة مستمران.. وهذا حرام شرعا يا د. مرسى
<<أمريكا قتلت 40 ألف باكستانى فى غاراتها بطائرات بدون طيار.. ما رأى الإسلاميين الذين كفوا عن معارضة أمريكا؟!
<<تونس بدأت تبيع ممتلكات "بن على".. فماذا فعلتم بممتلكات المخلوع ؟!
لقد كنا ولا نزال نتمنى نجاح حكم الرئيس مرسى (حكم الإخوان المسلمين) من أجل الوطن والإسلام، ولا نسعى إلى زيادة جرعة معارضتنا له حتى لا تختلط أوراقنا مع مجموعات عالية الصوت تعارض حكم مرسى والإخوان بالباطل ودون مراعاة مصالح الوطن، ودون أية رغبة فى المرجعية الإسلامية. ولكن إدارة شئون الوطن تعانى من تدهور كبير ينذر بالخطر، ومن الواجب الوطنى والدينى أن نحذر من ذلك. وهذا الواقع أخطر من قضية الدستور -على أهميتها- وإن كانت إدارة شئون الوطن تتفاعل وتتأثر بصورة متبادلة مع معركة الدستور.
وأشير فى البداية إلى خطأ يرتكبه الإخوان عندما يمارسون أسلوب التسلل التدريجى للحكم، عن طريق تعيين نواب للمحافظين أو مساعدين للوزراء، بعد قيامهم من قبل بتعيين عدد محدود منهم فى الوزراء والمحافظين، وكأن المسألة بالفعل مسألة تسلل وخداع تدريجى لإحكام السيطرة على مفاصل السلطة وتثبيت النفوذ للتنظيم. وهذا أمر مضر للغاية لأنه يعطى الانطباع بفكرة التسلل التدريجى من أجل السيطرة وكأن ذلك عمل غير شرعى، والأهم من ذلك أن هذه "السرسبة" لا تحقق قوة الدفع والاندفاع لتحقيق الإصلاح الذى يحتاج إلى جهود جبارة تبذل فى وقت واحد وبصورة مترابطة وعلى كل الجبهات، حتى تستطيع أن تعطى نتائج ملموسة يشعر بها الناس. ومن الخطأ الكبير أن يقال إن هذه الحكومة حكومة تكنوقراط وليست حكومة الإخوان؛ سمها ما شئت ولكن الناس يتعاملون معها على أنها حكومة الإخوان التى شكلها القيادى الكبير فى الإخوان د. محمد مرسى رئيس الجمهورية، وسيدفع الإخوان فاتورة ثقيلة لحكومة قنديل، ولا يستطيعون أن يتبرأوا منها. وأهمية هذه الملاحظة أن الإخوان يغلبون دائما سنة التدرج على سنة الطفرة، فإذا كان التدرج سُنة مؤكدة من سنن الله، فالطفرات والثورات سنة مؤكدة أيضا من سنن الله، والتدرج فى موطن الثورة أو الطفرة خطأ، وانتشال البلاد من أوضاعها المتردية يحتاج إلى طفرة فورية فى مجال الإصلاح والاندفاع فى طريق التنمية المستقلة، ثم نعود إلى التدرج، ثم قد نحتاج إلى طفرة أخرى بعد فترة من الزمن... وهكذا. ولا يجوز الآن العمل بأسلوب فترة المعارضة نفسه عن طريق ترك منصب النقيب للحزب الوطنى وحصول الإخوان على أغلبية مجلس النقابة! لا يزال الإخوان يتسترون خلف عناصر من النظام البائد ويتدثرون بهم ليثبتوا أنهم غير متطرفين، وليطمئنوا الولايات المتحدة فيقربوا إليهم أشهر عملاء الأجهزة الأمنية وعملاء أمريكا فى النخبة المصرية ويستبعدون أخلص عناصر التيار الإسلامى والوطنى، كما حدث فى انتخابات مجلسى الشعب والشورى وتكرر فى مواقف أخرى.
ولا يهمنا أن ينفرد الإخوان بالحكم وبكل المناصب إذا تم ذلك عبر الحصول على أغلبية فى انتخابات حرة كما هو الحال الآن، بل بالعكس نؤيد ذلك ونحاسبهم على سياساتهم وممارساتهم، ولكن الإخوان يتولون السلطة الآن بالتعاون مع بقايا النظام السابق، وبدون تغيير سياساته، وكأن الموضوع هو الوصول إلى السلطة "وخلاص"!! ولا يهمنا بقاء من كان فى النظام السابق فربما أصابته نزعة إيمانية أو وطنية وقرر التوبة النصوح، ولكننا نجدهم يعلنون التزامهم بالسياسات القديمة نفسها فى كل المجالات تقريبا.
وزراء من العهد البائد
وأبرز هؤلاء هو رئيس الوزراء هشام قنديل الذى يكرر الدفاع عن السياسات الاقتصادية والاجتماعية نفسها للعهد البائد؛ ومن أمثلة ذلك وزير البترول الذى ظهر فى برنامج تلفزيونى يدافع فيه بحرارة عن سياسات البترول من عهد عبد الهادى قنديل، بل من عام 1861 حتى سامح فهمى !! وتحول إلى محامى إسرائيل ودافع بشراسة يحسد عليها عن حقوق الصهاينة فى غاز البحر المتوسط، ولم يتلعثم ولم يرتبك إلا عندما دخل البرنامج على الهاتف خبراءُ البترول الوطنيون الذين أفحموه؛ وزير الزراعة نموذج آخر، والزراعة من أهم الوزارات التى تحتاج إلى تطهير بعد يوسف والى، الذى لا تزال آثاره مستمرة حتى الآن، أتباع يوسف والى لا تزال أقدامهم راسخة فى الوزارة رغم وجوده فى السجن!.
وثبات السياسات أخطر من ثبات الأشخاص، وقد تناولنا كثيرا السياسات الاقتصادية ومفهوم التنمية المستقلة، ومن الواضح أن الإخوان المسلمين يميلون إلى المدرسة الرأسمالية رغم عدم وجود وثيقة واضحة بهذا الشأن، ومن المؤكد أن الاقتصاد الإسلامى ليس هو الرأسمالية، ويبدو أن الإخوان لم يصلهم خبر أن آدم سميث أبو الرأسمالية لم يعد مرجع الغرب فى الاقتصاد، وأن دور الدولة فى الاقتصاد قد حسم منذ وقت طويل فى الغرب. ولكن ليس هذا أخطر موضوع، لأن المخلص فى مسألة التنمية المستقلة والمُصرّ على تحرير البلاد من الهيمنة الأجنبية سيصل إن آجلا أو عاجلا إلى أهمية دور الدولة فى الاقتصاد، ودور القطاع العام. الموقف الأخطر فى السياسة، أن الإخوان لديهم اقتناع كامل بضرورة مهادنة الولايات المتحدة وإسرائيل على أساس أن الأولوية الآن لبناء مصر. ولكن المشكلة أن الحلف الصهيونى الأمريكى هو الذى لا يريد مهادنة مصر ! وهو لا يريد الحرب أو الاحتلال لأنه سيخسر إذا فعل ذلك وسيوحد المصريين ضده، بل إن أوباما كان يعنى ما يقول -بعد نجاحه- عن استبعاد دخول أمريكا فى حروب، لأن أمريكا لا تقوى عليها لأسباب شرحناها فى مقالات سابقة: أزمتها الاقتصادية، وهزيمتها العسكرية الفعلية فى العراق وأفغانستان، وهزيمة حليفتها إسرائيل فى لبنان وغزة. ولكن الحلف الصهيونى الأمريكى يريد إفشال الحكم الإسلامى فى مصر وغيرها أو تطويعه بالكامل أمريكيا وغربيا ليكون الإسلام أقرب إلى الفلكلور (الفن الشعبى). وفى كل الأحوال وبغض النظر عن طبيعة الحكم فى مصر فإن مصر يجب أن تكون ضعيفة وغير قادرة على قيادة وتوحيد أمتها العربية والإسلامية، وغير قادرة على أن تكون دولة مناطحة أو منافسة لإسرائيل، ومن ثم يجب ألا تمتلك أسباب القوة الاقتصادية والعسكرية والعلمية والتكنولوجية. فأمريكا لا يمكن الاعتماد عليها فى التحول المطلوب لمصر من دولة فاشلة خارج التاريخ، إلى دولة ناهضة بين الأمم، وكلما اعتمدنا على أنفسنا شعرت أمريكا بالاستفزاز وخلقت لنا المشكلات. أصابع الحلف الصهيونى الأمريكى لم تكن بعيدة عن كل مظاهر الفوضى الأمنية التى ألمت ولا تزال بالبلاد. وكل المنفذين مصريو الجنسية من شراذم الحزب الوطنى والبلطجية، وأموالهم حرام، منهوبة من الشعب المصرى أو تَرِد مباشرة من مصادر أمريكية وصهيونية، وهؤلاء لا يخربون بهدف إعادة مبارك ولكن للحفاظ على شبكة مصالحهم التى تتغذى فى مصادرها النهائية من أعداء الأمة، كما أن مبرر وجود هذه الشبكة وكل بقايا النظام السابق أن تكون على درب المخلوع نفسه فى التبعية، وهذه هى رسالتها فى الحياة. وكل من يقول أين أيام حسنى مبارك؟ فهو يردد دعوة الركوع لأمريكا وإسرائيل باعتبارها عين العقل والحكمة، ولا يمكن القضاء على هذا التوجه الفاسد وطنيا وأخلاقيا إلا بخط وطنى متماسك وصريح يشرح للأمة الأسباب الحقيقية لتخلفها وفقرها ويضع الحل انطلاقا من ذلك، والشعب المصرى مستعد للتضحية والفداء والتحمل والصبر إذا كان أمامه مشروع وطنى واضح، ويتقدمه قادة يضحون بأنفسهم قبل أن يطالبوه بالتضحية.
التبعية هى الداء الأصيل
إن السبب الجوهرى لانهيار مصر فى عهد المخلوع هو التبعية الكاملة للحلف الصهيونى الأمريكى أما باقى الأسباب فهى مجرد تداعيات ومظاهر وانعكاسات لهذا المرض العضال. ولكن هناك تفاهمات أمريكية إخوانية على مستوى مصر وعلى مستوى الوطن العربى، وما يهمنا الآن ما يجرى فى مصر؛ مثلا تم تسريب أن مدير المخابرات الأمريكية عندما التقى بالرئيس مرسى تحدث معه عن الأمن فى سيناء وإمكانية مشاركة أمريكا فى ذلك، ولا نعتد بهذه التسريبات، ولكن أليس الأمريكان موجودين على أرض سيناء بصورة عسكرية، فما معنى نفى رئاسة الجمهورية هذا التسريب، خاصة بعد زيارة مسئول عسكرى أمريكى رفيع لسيناء وقت زيارة مدير المخابرات. لكننا نعتد أساسا بالوقائع الراسخة على الأرض، فالالتزام بمعاهدة السلام فى التفاهمات مع أمريكا اتضح أنه لا يشمل مجرد الحفاظ على السلام مع إسرائيل، بل يشمل مواصلة التطبيع بنشاط؛ فصرح رئيس الوزراء أنه يسعى لتوسيع اتفاقية الكويز المشئومة، ثم صرح وزير الصناعة منذ أيام أن مصر طلبت من إسرائيل تخفيض المكون الإسرائيلى فى الاتفاقية من 11% إلى 8% !! إذن هناك اتصالات اقتصادية مع إسرائيل وهناك رغبة بالفعل فى توسيع التعاون!
وثبت أن تفاهمات الإخوان والأمريكان تشمل استمرار حصار قطاع غزة، مع إجراء بعض التحسينات، وإن كانت أمريكا تضغط فى اتجاه إنهاء المقاومة المسلحة فى غزة، ولكن الإخوان وقبلهم حماس يرفضون ذلك، ولكن مقابل وقف إطلاق النار واستمرار التعامل مع معبر رفح بالطريقة القديمة نفسها، أى عدم السماح بدخول البضائع. وفى المقابل هناك حملة أمنية حقيقية لتدمير الأنفاق وباستخدام المعدات الأمريكية التى وردت إلى مصر خلال عهد المخلوع. إنه أمر يفوق الخيال: فى عهد الإخوان تتم محاصرة غزة التى تحكمها حماس الإخوانية !! وخلال زيارتى الأخيرة لغزة شعرت بقلق حقيقى لدى أهلها والذى وصل إلى حد تنظيم مظاهرات احتجاج عند المعبر ونزع صور مرسى التى كانت قد علقت بعفوية عند فوزه بالرئاسة.
ومن الأمور الثابتة فى عهد مرسى إجراء مناورات حربية جوية لمدة أسبوعين فى أرض مصر وأجوائها مع القوات الأمريكية التى تقتل المسلمين فى أفغانستان وباكستان واليمن، على الأقل: هل يعلم المسلمون والإسلاميون فى مصر أن القوات الجوية الأمريكية قتلت 40 ألف باكستانى فى السنوات الأخيرة من خلال غارات الطائرات بدون طيار. طبعا من الأمور الثابتة والمعروفة اعتماد جيشنا على التسليح الأمريكى من خلال المعونة الأمريكية بأكثر من مليار دولار سنويا، وهذه وسيلة ضغط وترويض، وأيضا وسيلة لمنع بناء جيش مصرى قوى قادر على مواجهة إسرائيل.
كيف نواجه إسرائيل
وآخر ما تداولته وكالات الأنباء تصريح رسمى صادر عن القوات العراقية يؤكد وجود أجهزة تجسس إسرائيلية مثبتة فى الطائرات الحربية المشتراة من الولايات المتحدة:
(كشف سلاح الجو العراقى قبل أيام، النقاب عن وجود جهاز من نوع "تى.اى.أيه.سى" الخاص بتسجيل المعلومات، خلال تحليق طائرة "إف 16"فى الهواء، من إنتاج شركة "رادا" الإسرائيلية للصناعات الجوية- وكالات-12/11/2012-، وبعثت قيادة القوة الجوية العراقية رسالة إلى شركة "لوكهيد مارتن" الأمريكية المصنعة للطائرات جاء فيها: إن المقاتلات الأمريكية الموجودة فى صفوف سلاح الجو المصرى والتركى والعمانى والعراقى تحتوى على أجهزة "تسجيل معلومات إسرائيلية الصنع").
هذا مجرد مثال من آخر الأنباء، ومن البديهى أننا لا يمكن أن نواجه العدو الإسرائيلى إذا فرضت علينا المواجهة بأسلحة الحليف الإستراتيجى له "أمريكا".
أما فى المجال الاقتصادى، فالأمر واضح وجد خطير والمسألة لا تقتصر على قرض الصندوق (الذراع الاقتصادى للولايات المتحدة) وإن كان الجدل فى هذا الموضوع كشف عقلية المجموعة الاقتصادية للإخوان: الإيمان بالرأسمالية، وأن التقدم لن يحدث إلا بالتعاون مع الغرب، إذًا لا تغيير فى السياسات الخارجية والاقتصادية، وكل الجديد هو محاربة الفساد، مع ملاحظة أنها محاربة سلحفائية حتى الآن. واقتراح الرئيس مرسى على المفسدين أن يودعوا أموالهم فى حساب مخصص لذلك اقتراح مروع لأنه يعكس غياب الرؤية السليمة للتفاعل مع هذا الملف. اطلعت مؤخرا على تقرير يكشف أن تونس بدأت عملية البيع فى مزاد لممتلكات بن على المصادرة، وأن التقديرات الأولية تشير إلى أن قيمتها يمكن أن تغطى ميزانية سنة! وكنت أتصور أن يكون حساب 333-333 مخصصا لمثل هذا يا د. مرسى!
************
مليونية الشريعة الإسلامية
لقد شاركنا فى مليونية الشريعة الإسلامية، لأننا لا نقبل التراجع عن المرجعية الإسلامية فى الدستور، وكان واضحا أن هذا الموضوع قد حسم وتم التوافق عليه، إلا أن جماعات علمانية مصرّة على تعطيل حركة البلاد من خلال تعطيل عملية إقرار الدستور، بهدف السعى لإسقاط حكم مرسى باعتباره بداية لحكم الإسلاميين. ومع ذلك فإننا نهيب بالقوى الإسلامية المختلفة أن تشرح وتعرض موقف وأحكام الشريعة للناس، وأن تتخذ مواقف سياسية بناء على هذه الشريعة، حتى نقضى على الالتباس الذى يحجم الشريعة فى الحدود، وحتى الحدود إذا شرحت بصورة صحيحة فستكون أفضل طريقة للدعوة الإسلامية. إن فترة مناقشة الدستور كانت فرصة (موسم) للدعوة ولا يزال الأمر مفتوحا. وفيما يتعلق بموضوعنا لا أرى طرح قضية الشريعة بالانفصال عن قضايانا الملحة، بل هذا الربط هو الذى سيجعل المواطنين يلتفون حول دعوتنا عقليا وليس وجدانيا فحسب. ومن ذلك وعلى رأس ذلك مسألة الاستقلال، وأننا أمة واحدة من دون الناس، وأن المؤمنين والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وأن موالاة (أى مصادقة ومحالفة) الأعداء المحاربين محرمة، وأنه لا يجوز مع إسرائيل إلا وقف إطلاق النار والهدنة، أما كل أشكال التطبيع فهى محرمة، وأن مشكلات مصر لن تحل إلا بشرع الله؛ فمشكلاتنا الاقتصادية تفاقمت عندما عادينا أمتنا وتحالفنا مع إسرائيل وأمريكا، وستتحسن أحوالنا عندما نعود إلى أمتنا العربية والإسلامية. كذلك الأمر فيما يتعلق بالعدالة الاجتماعية ودور الزكاة.
نعلم أن الأمة قد عادت لدينها ولكن لا بد للشعب أن يثق فى سداد وصحة مسيرة الحركة الإسلامية لكى يظل متفاعلا معها من أجل تحرير بلادنا من الفقر والمرض.. ومن أجل إعادة مصر إلى مجرى التاريخ الذى خرجنا منه!
**************
مشروع الألف قرية بين الجد والهزل
للمرة الثانية مع الأسف أجد نفسى أعيد نشر مقالا كتبته فى السجن فى الأيام الأخيرة للمخلوع وتم نشره على الإنترنت فى حينه.. مع الأسف لأن المقال يرد على حكومة قنديل التى شكّلها مرسى، الأولى كانت حول اتفاقية بريتش بتروليم، وهذه الثانية عن المشروع الفاشل لجمال مبارك الذى أكدت حكومة قنديل أنها متمسكة به وستنفذه! ولا حول ولا قوة إلا بالله.
لقد احترت فى أهل الحكم، فهل هم يجهلون ألف باء علم الاقتصاد؟ أم أنهم يعلمون ويتعمدون "التهريج" والممارسات المسرحية لأنهم غارقون فى الفساد ويودون أن يظهروا أمام الناس أنهم يعملون بجدية من أجلهم؟ ويبدو أن الحقيقة مزيج من كل ذلك.
أقول ذلك بمناسبة ما يسمى مشروع الألف قرية الذى طرحه جمال مبارك وتبنته الحكومة، وهم يتذكرونه أحيانا وينسونه أحيانا أخرى، وهذا طبيعى لأنها فكرة فاشلة ككثير من أفكارهم الفاشلة (كمشروع توشكى). وتقوم فكرة مشروع الألف قرية، على استنهاض أحوال أفقر ألف قرية فى مصر. منذ عدة شهور قال نظيف فى حديث تلفزيونى أنه لا يمكن استنهاض ألف قرية مرة واحدة, ولذلك فقد بدأنا بـ 100 قرية، وأن هذا المشروع سيستغرق عدة سنوات. فإذا كان يقصد 5 سنوات فهذا يعنى أن المشروع سيستغرق 50 سنة، وهذا كلام فارغ لأنه لا يوجد مشروع يستمر 50 سنة!
قد يكون المقصود من هذا المشروع مجرد تلميع جمال مبارك, فيذهب إلى بعض هذه القرى ويأخذ صورا مع الفلاحين. ولكن فكرة المشروع لا علاقة لها بعلم الاقتصاد، ولا بالتجارب التنموية الجادة للشعوب. فالمقصود بتنمية الألف قرية هو تزويدها بالخدمات التى تنقصها، وهى فكرة تسير على خط مستقيم ضد أى فكر اقتصادى رشيد؛ فقد قامت التجارب التنموية فى الشرق والغرب على أساس فكرة القطاعات القائدة، وأن تنمية هذه القطاعات يكون بمنزلة القاطرة التى تشد القطار كله، أما توجيه الطاقات إلى أكثر القطاعات تخلفا، فسيعنى توجيه الأموال بصورة غير رشيدة, وكأنك ترميها فى البالوعة فلا يستفيد الاقتصاد ككل، ولا حتى القطاعات المتخلفة تستفيد كثيرا. فماذا لو سار المشروع إلى نهايته وتم تزويد ألف قرية بالخدمات الناقصة فيها، بينما لا يوجد عمل إنتاجى بها، لاحظ أن معظم هذه القرى (أكثر من 700) فى الصعيد، ومشكلة الصعيد الأساسية هو النقص الفادح فى المشروعات الإنتاجية، وهو ما يؤدى إلى شيوع الفقر وارتفاع نسبة البطالة إلى الحد الأقصى.
ومفهوم القطاعات القائدة والرائدة يعنى قطاعا إنتاجيا محددا، وقد يعنى أيضا تمركزا جغرافيا فى مكان محدد. وأشهر مثال على ذلك "التجربة الصينية"، فالمعروف أن المنطقة الساحلية الشرقية هى القائدة فى عملية التنمية, وأنها تشد وراءها المناطق الغربية, ويشعر سكان الشرق بهذا التقدم (حوالى مليار نسمة)، بينما يتأخر عنهم سكان الغرب (من500-600 مليون) ولكن بركات النمو فى الشرق تعم تدريجيا فى اتجاه الغرب، فشرق الصين هو الذى يجذب غرب الصين تدريجيا إلى الأمام، ويتقدم الاقتصاد الصينى ككل بكل مؤشرات التنمية. فالمسألة ليست مجرد التمركز الجغرافى، رغم أهمية ذلك من الناحية الاقتصادية (كالوجود بالقرب من الساحل وسهولة الاستيراد والتصدير عبر الموانئ... إلخ) ولكن أيضا فى تمركز الاستثمارات فى القطاع الصناعى، ثم فى قطاع التكنولوجيا الفائقة. فالتنمية لا بد أن تقوم على قاعدة التركيز ثم الانتشار, ولا يمكن أن تقوم على أساس الاستثمار المتساوى تماما وفى كل الأماكن وكل القطاعات, لأن هذا غير ممكن عمليا. المهم أن تكون القطاعات القائدة مرتبطة بالاقتصاد الداخلى حتى تضخ وفراتها إلى الأماكن الأكثر احتياجا، ولا تكون مجرد قطاع منفصل ومتصل بالعالم الخارجى فحسب. ويؤدى نجاح القطاعات الرائدة إلى زيادة إيرادات وميزانية الدولة لتستطيع أن توجِد مزيدا من المشروعات الإنتاجية والخدمية فى المناطق الأكثر فقرا، أما إذا أخذت موارد الدولة معظمها أو كلها إلى المناطق الأكثر فقرا فسينهار الاقتصاد ككل. وهذا هو السبب فى الحديث عن 100 قرية بدلا من 1000, لأن ميزانية الدولة يمكن أن تضيع فى هذا المشروع بدون أى عائد ملموس؛ فإذا افترضنا جدلا أنه تم إنشاء أحسن المدارس والمستشفيات والمجارى فى الألف قرية، فستظل هذه القرى طاردة للسكان بسبب البطالة، سيظل الصعيد طاردا للسكان إلى القاهرة وبحرى، وستظل القاهرة وبحرى رغم توفر الخدمات طاردة للسكان إلى قاع البحر المتوسط أو الشواطىء الأوروبية، فتشير التقديرات الرسمية إلى نزوح 8 ملايين مصرى للخارج, أى 10% من السكان, وهى نسبة غير مسبوقة فى التاريخ.
وفى مقابل هذا المشروع الفاشل الذى يحتاج إلى 50 سنة، ننظر إلى تجربة البرازيل التى ركزت على نمو الإنتاج فتمكنت خلال (5 سنوات) لا 80 سنة، فمبارك يحكمنا منذ 30 سنة + 50 سنة لتطوير ألف قرية = 80 سنة، والحقيقة فإن هذا النظام يحكمنا منذ عام 1975 (نظام الانفتاح) = 85 سنة. تمكنت البرازيل خلال 5 سنوات فى زيادة الحد الأدنى للأجور (وليس المتوسط) من ألف إلى 4 آلاف دولار, وتحسنت أحوال 30 مليون من السكان الأكثر فقرا.
زيادة الإنتاج والإنتاجية هى مفتاح الحل، وهذا يحتاج إلى حكم رشيد يركز على تطوير القطاعات القائدة للاقتصاد، ولكن الحكم الحالى مشغول بتحطيم هذه القطاعات تحديدا: كزراعة القطن وصناعة النسيج دون إنشاء قطاعات رائدة بديلة. وسنعود إلى كل هذه الموضوعات, ولكننا نؤكد الآن أن مشروع الألف قرية هزل فى موطن الجد، وإضاعة مليارات أخرى كمليارات توشكى فيما لا طائل من ورائه.
( يونيو 2010 – سجن المرج )
No comments:
Post a Comment